لم تمضِ سوى أسبوعين على كارثة هدم قبة حليم باشا، حتى صُدم المصريون مجددًا بكارثة صيانة تماثيل أسود قصر النيل، ما يثبت أن معاول الهدم تواصل طريقها دون اكتراث. في شهر أكتوبر، ودّع المصريون الجمال المعماري لقبة حليم باشا بمقابر الإمام الشافعي بالقاهرة، بعد انتشار صورها وهي تتحول إلى كومة من الأنقاض. هذه لم تكن المرة الأولي التي تدمر فيها الحكومة المصرية أحد المعالم ذات الطابع المعماري الفريد، إنما تأتي ضمن خطة لنقل مقابر الإمام الشافعي من القاهرة، وهي المنطقة التي تتميز بطراز معماري يحمل في طياته تاريخا طويل للعاصمة المصرية، ومدفون بها معظم الشخصيات التي أثرت في تاريخ مصر قديما وحديثا.
تتبع الحكومة المصرية نهجًا مثيرًا للقلق، حيث يظهر جليًا أن من لا يدرك قيمة التراث المعماري المميز لمقابر الإمام الشافعي، ويتعامل معه بأسلوب قسري، لن يقدّر كذلك القيمة الفنية المتجسدة في المنحوتات البرونزية، التي تُضفي مظهرًا من الجلال والجمال على الفراغات العمرانية. هذه المنحوتات، التي صمدت عبر عقود وقرون في وجه الزمن وعوامل المناخ، تجد نفسها الآن عاجزة أمام التدخلات البشرية غير المدروسة التي تُنفَّذ دون النظر بعين الاعتبار إلى أهميتها التراثية والجمالية.
اعلان هزيمة هنري جاكمار في القاهرة
هنري جاكمار (1824-1896) هو أحد أبرز النحاتين الفرنسيين في القرن التاسع عشر، استلهم أعماله من رحلاته خارج فرنسا، وخاصة إلى مصر وتركيا. تميزت منحوتاته البرونزية بتجسيدها للحيوانات بدقة وجمال، مما أكسبه شهرة واسعة. تحتضن العاصمة باريس بعضاً من أعماله الأشهر، ومنها تمثالان لأسدين برونزيين يزينان مدخل بلدية باريس، ليشكلا جزءاً من التراث الفني للمدينة.
بالمثل، امتلكت القاهرة أيضاً أعمالاً رائعة لجاكمار لا تقل جمالاً عن أسوده الشهيرة في باريس، مثل أسود قصر النيل، التي نحتها بناءً على طلب من الخديوي إسماعيل عام 1868 في إطار خططه الطموحة لتطوير القاهرة. وُضعت هذه الأسود الأربعة البرونزية، التي تقف بفخامة على مدخل كوبري قصر النيل، كرمز للقوة والجمال، وأصبحت منذ ذلك الحين من أهم معالم القاهرة ومقصداً بارزاً يجسد التقاء الفن الفرنسي والعمارة المصرية في ذلك العصر.
إلا أن هنري جاكمار، الذي تحدى الزمن بأعماله الإبداعية، لم يستطع أن يتحدى العمال المصريين وهم يقومون بطلاء أسوده في العاصمة المصرية بدهانات لامعة، في مشهد عبثي يصعب أن يقوم به عاقل. فقد تفاجأ المصريون بمنشور من الدكتور محمد الصبان، الوكيل العام لنقابة الفنانين التشكيليين، على فيسبوك، يشير إلى أن كارثة ما تحدث لأسود قصر النيل وتمثال سعد زغلول، حيث تم وضع سقالات حولهم لإعادة طلائهم. وفي يوم 28 أكتوبر نشرت النقابة العامة للفنانين التشكيليين بمصر بيانا عبر صفحتها على فيسبوك، أعربت فيه عن تخوفها مما يحدث لأسود قصر النيل، وأن هذه الأعمال تأتي ضمن خطة صيانة 21 تمثالًا في الميادين العامة بالقاهرة. وقد لاحظوا استخدام معدات مخالفة للقواعد العلمية أثناء صيانة أسود قصر النيل، مما قد يؤدي إلى فقدان القيمة الفنية لهذه التماثيل.
وزارة الآثار تتبرأ
نفت وزارة السياحة والآثار المصرية في 29 أكتوبر علاقتها بصيانة تماثيل أسود قصر النيل وطلائها باللون الأسود، وأكدت أن هذه التماثيل ليست ضمن الآثار المسجلة لديها. أوضح المجلس الأعلى للآثار أن الأعمال الجارية اقتصرت على تنظيف التماثيل وإزالة الأتربة، بالإضافة إلى وضع طبقة عزل شفافة لحمايتها من العوامل الجوية، دون استخدام أي طلاء أو مواد ملونة. وأشار إلى أن أعمال الصيانة تتم بتنسيق مع محافظة القاهرة للاستفادة من خبرات المجلس في تنظيف وصيانة التماثيل الموجودة في الميادين العامة. وأضاف أن تماثيل الأسود تُعتبر جزءًا من التراث الفني والتاريخي، وأن الفريق المختص اتبع المعايير العلمية والفنية المعتمدة. ونفى المجلس استخدام أي مواد تلميع أو طلاء تؤدي إلى تغيير لون التماثيل، مبينًا أن عمليات التنظيف الدورية بدأت منذ عام 2021 وتضمنت تطبيق طبقات عازلة بشكل منتظم، مما ساهم في الحفاظ عليها من التآكل.
ردًّا على بيان وزارة السياحة والآثار حول أعمال صيانة أسود قصر النيل، أبدى وكيل عام نقابة التشكيليين الدكتور محمد الصبان رأيًا مغايرًا في تصريح لـموقع “المنصة“، مؤكدًا أن التماثيل تم طلاؤها وليس تنظيفها، وقال: “لا نحتاج متخصصين للتأكد، فأي شخص يمر بجوار تماثيل أسود قصر النيل سيشم روائح نفاذة للطلاء بوضوح، وأن المجلس الأعلى للآثار نفى استخدام مواد طلاء كيميائية، بينما الحقيقة أن الطلاء واضح جدًا، وقد غيّر من لون التماثيل وأضفى عليها لمعانًا غير طبيعي، مما يثبت أنهم استخدموا مواد لم يكن ينبغي استخدامها.
أوضح الصبان أن التماثيل البرونزية لم تكن تحتاج إلى ترميم، بل إلى تنظيف بسيط باستخدام مذيبات الأتربة، وأضاف: “حتى اليافطة بجوار السقالات مكتوب عليها: صيانة وترميم أسود قصر النيل بالتعاون مع وزارة الآثار، وهذا خطأ كبير؛ لأن التماثيل كانت تحتاج فقط إلى تنظيف بسيط بمذيبات الأتربة، وليس إلى ترميم. وأكد أن طبقة الطلاء التي أُضيفت قد أثّرت سلبًا على مظهر التماثيل ولونها، محذرًا من أن عوامل الطقس والشمس وعوادم السيارات ستتسبب في تقشر الطلاء بمرور الوقت، مما سيؤدي إلى سحب جزء من الطبقة الأصلية للبرونز. كما ذكر الصبان أنه خلال خروجه من النقابة مع نقيب التشكيليين طارق الكومي، لاحظوا السقالات المحيطة بالتماثيل وناقشوا حالتها، وأن النقيب صعد على السقالة ليعاين التمثال من قرب، ليتأكد من حقيقة ما جرى.
إذن، تواجه الأعمال الفنية العريقة في مصر اليوم تحديًا جديدًا، ليس من عوامل الزمن، بل من التدخلات الحكومية، حيث يبدو أن التماثيل التي صمدت لعقود طويلة لم تستطع الصمود أمام قرارات صيانة تفتقر إلى التشاور مع أهل الاختصاص. وبينما تصر البيانات الرسمية على نفي استخدام مواد الطلاء، يؤكد الخبراء من نقابة التشكيليين أن التماثيل قد تعرضت لطبقات من الطلاء غيّرت لونها الطبيعي وأضفت عليها لمعانًا غير مبرر. هذا الوضع يعكس انفصالًا صارخًا بين التصريحات الحكومية وواقع التنفيذ الفعلي، ويبرز الحاجة الملحة إلى إشراك المتخصصين قبل اتخاذ خطوات قد تضر بالتراث الثقافي والفني، الأمر الذي يتطلب وضع استراتيجيات واضحة للحفاظ على الهوية الفنية لمصر وضمان سلامة معالمها التراثية.
أسود قصر النيل ليست وحدها
حقيقة تشهد مصر حالة من انعدام الزوق الفني، والتشويه الثقافي، خلال الحقبة الحالية. تماثيل أسود قصر النيل ليست الحالة الأولي التي تدل على هذا التشويه. إن كان تم تشويه التماثيل التي أمر الخديوي إسماعيل بنحتها وجلبها الى مصر، فإن الخديوي نفسه لم يسلم من عمليات التشويه، ففي عام 2019 قامت الإدارة المحلية في أحد أحياء محافظة الإسكندرية بصيانة تمثال الخديوي إسماعيل عن طريق طلائة بمادة سوداء، حتي تم طمس معالم التمثال، دون استشارة أي من أهل الاختصاص بوزارة الثقافة أو الآثار، جاء هذا بعد عام واحد من طلاء محافظة الإسماعيلية الى تمثال آخر للخديوي إسماعيل باللون الأسود والأبيض، ليتحول التمثال إلى دمية.
عام 2019 أيضا، تم تشويه تمثال “الفلاحة المصرية” للفنان المصري فتحي محمود، وذلك بعدما قامت الإدارة المحلية في مدينة الحوامدية بمحافظة الجيزة، بطلاء التمثال باللون الأبيض، وطلاء شفاه التمثال باللون الأحمر، قبل أن تدخل وزارة الثقافة، وتشكل لجنة متخصصة، وتقر بأن التمثال تم تشويهه بتدخلات خاطئة، وقررت إعادته الى شكله الأصلي.
في عام 2016 شهدت محافظة سوهاج الإعلان عن تمثال أم البطل، والذي كان عبارة عن عسكري يحتضن امرأة من الخلف، والذي شهد سخرية واسعة بعد نشر صوره، جعلت محافظ سوهاج يحيل النحات والمسئولين عن التمثال الى التحقيق. الأمر نفسه الذي تكرر في عدد من المحافظات المصرية خلال السنوات السابقة، والتي لم نعلم شيء عن فترة تصميم أو ترميم هذه التماثيل الا بعد انتشار صورة لإدارة المنطقة المحلية بجوار تمثال مشوه المعالم.
ليس بعيدا عن نفس السياق، لكن ما يحدث من تشويه، يجعلنا نتذكر مثال بسيط عن كيفية اسناد الاعمال الفنية في مصر، والمراقبة على تنفيذها، ففي عام 2022 تم اسناد تصميم جداريات محطة مترو “كلية البنات” بمحافظة القاهرة الى السيدة غادة والي، التي تقدم نفسها على أنها فنانة تشكيلية، وبعد انتهائها من تعليق الجداريات في محطة المترو، نشر الفنان الروسي جورجي كوراسوف على حسابه بفيسبوك، أن لوحاته تم استخدامها في أحد محطات المترو في القاهرة دون إذن منه أو وضعه اسمه عليها، ليتقدم بعدها برفع قضية على غادة والي مطالبا بالحقوق الأدبية، وقضت المحكمة الاقتصادية بحبسها لمدة 6 أشهر وتغريمها نحو 4530 دولارا، وفي عام 2024 تقضي المحكمة بإلغاء حبس المتهمة بالسرقة.
ختاما، تعكس الأحداث المتتالية التي شهدتها مصر، من هدم قبة حليم باشا إلى صيانة تماثيل أسود قصر النيل، أزمة حقيقية في التعامل مع التراث الثقافي والمعماري. هذه الكوارث ليست مجرد إهمال، بل هي نتيجة لسياسات تفتقر إلى الرؤية والتخطيط، مما يؤدي إلى تهديد قيمتنا الثقافية التي تمثل تاريخًا طويلًا وحضارة غنية. إن إغفال أهمية المشاورات مع المتخصصين في الفنون والتراث عند اتخاذ قرارات تتعلق بالصيانة أو الترميم يعكس انفصالًا صارخًا بين السلطات المعنية وواقع ما يجري على الأرض.
يجب أن تعى الحكومة المصرية أن التراث الثقافي ليس مجرد معالم وأعمال فنية، بل هو جزء من الهوية الجماعية للشعب. وتدمير المعالم التاريخية أو الإخفاق في صيانتها يعكس عدم احترام لتاريخنا وثقافتنا. إن الأعمال الفنية والمعمارية تعتبر ذاكرة حية تعكس تجارب الأجيال السابقة، وبدونها، نفقد القدرة على التواصل مع ماضينا وفهم كيفية تأثيره في حاضرنا.
علاوة على ذلك، فإن هذا الانفصال بين السلطات والمجتمع لا يؤثر فقط على الإرث الثقافي، بل ينعكس أيضًا على الوعي العام والمشاركة المجتمعية. فعندما يشعر الناس أن التراث غير محمي أو مُهمل، فإن ذلك سينعكس سلبا على أفراد المجتمع، مما يؤدي إلى تراجع الاهتمام بالمحافظة على ثقافتنا وتاريخنا مجتمعيا. من الضروري بناء جسور بين الفنانين والسلطات المعنية، لتعزيز الحوار والتعاون في مشاريع الترميم والصيانة.
في هذا السياق، ينبغي أن تتبنى الحكومة نهجًا أكثر شمولية يتضمن إشراك المجتمع المحلي والمتخصصين في جميع مراحل التخطيط والتنفيذ. ينبغي أن تكون هناك استراتيجيات واضحة لحماية التراث، تتضمن أساليب علمية ومهنية للحفاظ على المعالم الثقافية وتطوير برامج تعليمية تعزز من فهم الإدارت المحلية قبل المواطنين لأهمية الحفاظ على التراث الثقافي.