نشر هذا المقال لـ إبراهيم عزالدين على موقع مدى مصر بتاريخ 10 أغسطس 2022
يوليو 1952، ذلك التاريخ الذي كان فاصلًا في تحولات مصر السياسية. هو التاريخ الذي شهد أحد المرات القليلة التي تتحول فيها السياسة العامة للدولة المصرية من نقيض إلى نقيضه، على عكس تغير رأس النظام فقط والاستمرار في السياسات المتبعة.
فقد أعلنت حركة يوليو التحول من العصر الملكي إلى الجمهوري، محملة بالأفكار الاشتراكية أو ما سُميت بـ«الاشتراكية العربية»، لتكون نهجًا للدولة استمر حتى بداية سبعينيات القرن العشرين. وأيًا كان مسمى هذه التجربة، إلا أنها واحدة من أبرز التجارب التي أثرت بشكل مباشر على العمران المصري، والتي لم يستمر تأثيرها فقط حتى بداية السبعينيات، إنما ما زال مستمرا حتى كتابة هذه الكلمات.
اتسم العمران المصري في الخمسينيات والستينيات بالانحياز إلى إسكان محدودي الدخل، وبذلك كان الاهتمام بالإسكان الشعبي والإسكان الصناعي، وهما النمطان اللذان يمسان بشكل مباشر القطاع الأكبر من المواطنين، وكان المسؤول عنهما بشكل مباشر هو القطاع العام. كذلك شهد العمران المصري في الخمسينيات العديد من العوامل التي أثرت على شكله، مثل سياسات التأميم التي انتهجتها حكومة يوليو، وكذلك قوانين تخفيض الإيجارات المتتالية. أما ما أود البدء به في الحديث عن عمران يوليو هو أبرز سمات الدولة آنذاك، حيث اعتبرت إحدى ركائز التجربة الاشتراكية، قوانين الإصلاح الزراعي، والتي هدفت وقتها إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بين أفراد الشعب المصري. أكسبت هذه القوانين تأييدًا شعبيًا كبيرًا للنظام الحاكم آنذاك، بعد أن كان الشارع مشحونًا ضد السياسات الإقطاعية قبل الخمسينيات، وذلك بسيطرة ما يقرب من عشرة آلاف مالك (6% من الملاك) على نحو 35% من مساحة الأرض الزراعية.
في دراسة أعدت عام 2017 بكلية الزراعة جامعة عين شمس عن توزيع الأرض الزراعية منذ صدور أول تعداد زراعي عام 1929 وحتى عام 2010، استخدمت معامل «جيني» في قياس عدالة التوزيع، وهو معامل يبدأ القياس من الصفر إلى الواحد الصحيح، حيث يكون التوزيع الأمثل إذا وصل المعامل إلى الصفر، ويكون في أسوأ حالات عدالة التوزيع كلما اقترب من الواحد الصحيح. وقد وصلت قيمة معامل جيني عام 1929 الى 0.892، وفي عام 1930 وصل إلى 0.783، وفي عام 1950 وصل الى 0.733، وكلها أرقام تقترب من الواحد الصحيح، مما يعني أن توزيع الأرض الزراعية قد وصل إلى مرحلة كبيرة من السوء. انخفض معامل جيني في عام 1960 إلى 0.597، ثم انخفض مجددًا عام 1980 إلى 0.532، ثم عام 1990 الى 0.582، وهي الفترات التي أعقبت قوانين الإصلاح الزراعي.
لكن، ماذا خلفت قوانين الإصلاح الزراعي؟
إن وجود قانون دون سند يحميه ويحقق أهدافه يجعله هو والعدم سواء، بل يجعل السلبيات التي تترتب على وجوده أكبر من سلبيات عدم وجوده، وهذا ما أحدثته قوانين الإصلاح الزراعي، التي صدرت على أربع مراحل، بدأت عام 1952 بالقانون رقم 178، ثم عام 1958 بالقانون رقم 24، ثم عام 1961 بالقانون رقم 127، وأخيرًا عام 1969 بالقانون رقم 50. وقد بدأت في أولى المراحل تحديد ملكية الفرد بـ200 فدان، وكذلك 200 فدان لباقي الأسرة، وانتهت بتحديد 50 فدانًا للفرد، وكذلك 50 لباقي الأسرة.
ظلت قوانين الإصلاح الزراعي تسير نحو تحقيق أهدافها في توزيع الأرض، لكن دون وجود هدف للمحافظة على قيمة الأرض وعدم تغيير استعمالها. مع مرور الوقت كانت حيازات الأرض الزراعية تنتقل من المالك إلى أبنائه بالتوريث، الأمر الذي جعل الحيازات الكبيرة مفتتة مع تطور الأجيال. فقد وصل عدد الحيازات الكلي عام 1950 نحو مليون حيازة، وذلك بمتوسط 6.13 فدان للحيازة الواحدة. وفي منتصف السبعينيات، قُسمت هذه الحيازات حتى بلغت 2.8 مليون حيازة، وقل متوسط المساحة في الحيازة الواحدة إلى 2.06 فدان. كما ظهرت الحيازات القزمية، والتي كانت نسبتها قليلة في النصف الأول من القرن العشرين، ووصلت في الستينيات إلى 26.4% للحيازات أقل من الفدان، لترتفع هذه النسبة في الثمانينيات إلى 32.3%، وتستمر في الارتفاع في التسعينيات إلى 36.1%، لترتفع في الألفينيات إلى 43.5%، وتصل هذه النسبة عام 2010 إلى 48.29%.
لقد كانت قزمية الحيازة أحد العوامل المشجعة على تغيير استعمال الأرض الزراعية، خاصة أن قوانين الإصلاح الزراعي كانت تسير وحدها غاضة الطرف عن إيجاد الحماية اللازمة لمنع التلاعب بأهدافها. في الوقت نفسه، تطورت حركة الصناعة في الستينيات، وشهدت معها مصر أكبر معدل في الهجرة الداخلية من الريف إلى المدن الكبرى، خاصة إقليم القاهرة، الذي كان منطقة الجذب الأولى للمهاجرين. فمنذ بداية الستينيات وحتى منتصفها، وصل معدل النمو السكاني السنوي في القاهرة وحدها إلى 4.4%. وفي ظل عدم وجود تخطيط مستقبلي لاستيعاب تيارات الهجرة الداخلية، فقد توجه قطاع كبير من المهاجرين إلى أطراف المدن والمناطق التاريخية وأحواش المقابر للسكن فيها، بينما ذهب قطاع آخر ممن لديهم القدرة الشرائية إلى شراء الأراضي الزراعية المتاخمة للمدن، ومن ثم البناء عليها خارج الإطار القانوني. فقد ذكرت الهيئة العامة للتخطيط العمراني في أحد تقاريرها أن مصر شهدت توسعًا عشوائيًا بعد عام 1960 بنحو 23 منطقة في إقليم القاهرة الكبرى.
إذن لقد ظهر تأثير قزمية الحيازة على العمران المصري في محورين، الأول تمثل في اتساع الكتلة العمرانية غير المخططة التي زحفت على الأراضي الزراعية المتاخمة للمدن نتيجة عدة عوامل، أهمها عدم التخطيط لاستيعاب الزيادة السكانية الكبيرة، واتسام المجتمع الريفي بعدم استقلالية الأبناء عند الزواج والبعد عن قريتهم في ظل عدم وجود ظهير صحراوي للكثير من القرى المصرية لاستيعاب الامتداد العمراني، بالإضافة الى التوسع في حركة التصنيع وتركزها في المدن الكبرى، التي جذبت الكثير من المهاجرين دون توفير المسكن الملائم بالقدر الكافي، وارتفاع أسعار أراضي البناء نظرًا للعائد الربحي الناتج عنها، مقابل شبه التجمد في أسعار الأراضي الزراعية. المحور الثاني تمثل في تأثر إنتاجية الأرض الزراعية نفسها مع زيادة عدد فواصل الحدود بين القطع، والتي أفقدت الأرض الزراعية 12% من مساحتها، حوالي مليون فدان في الدلتا والوادي، وفقًا لتصريح وزير الزراعة الحالي. كما يصعب مع المساحات الصغيرة استخدام الآلات الحديثة في الزراعة والحصاد، وزيادة عدد العاملين مقابل إنتاج بسيط.
اعتُبر تفتت حيازة الأرض الزراعية أهم معوقات التنمية التي ذكرتها استراتيجية التنمية الزراعية 2030، ولذلك في الستينيات، اتجهت الحكومة إلى ما عرف بتجميع الاستغلال الزراعي. هدف هذا المشروع إلى تجميع المساحات الصغيرة في أحجام كبيرة مع المحافظة على ملكية كل فرد، وتم تقسيم الزمام الزراعي لكل قرية إلى مجموعة من الأحواض، واختص كل حوض بزراعة منتج زراعي معين يتم تحديده بواسطة الجمعيات التعاونية، إلا أن هذا المشروع واجه صعوبة مع عدم رغبة الملاك الالتزام بالزراعة المحددة، لهذا أتيح تبادل الأرض في الأحواض المختلفة على شكل مهايأة أو إيجار. لكن هذا المشروع وغيره لم يدم طويلًا لغياب التخطيط المستدام، وتداخل المصالح السياسية في الخطة الزراعية، حيث ظل تغيير استعمال الأرض الزراعية لفترة طويلة يقدم كرشاوى انتخابية على هيئة وعود المرشحين البرلمانيين للمواطنين بتقنين الأراضي المبني عليها خارج الحيز العمراني وإدخالها كردون المباني بمجرد نجاحهم في الانتخابات.
وما الحل الآن؟
في اليابان، مع تفتت ملكيات الأرض الزراعية الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية بعد قيام الحكومة بشراء الأراضي الزراعية من كبار الملاك ومنحها لمن لا يملكون أرضًا، قامت الحكومة وقتها بإنشاء شركات صغيرة لكل مجموعة من الأفدنة يشارك فيها الملاك بأسهم فقط، وهذه الأسهم هي القابلة للتوريث وليست الأرض.
الحل هنا يكمن في مواجهة مشكلة التفتت عن طريق تجميع الحيازات الصغيرة. قد يحدث ذلك في صورة أسهم تحت شركات مساهمة صغيرة، وقد يقوم بهذا الدور الجمعيات التعاونية، وتكون من صلاحيتها شراء الأرض إذا رغب الورثة في بيع أسهمهم، وقيام الجمعيات التعاونية بإعادة طرح هذه الأسهم عن طريق البيع أو الإيجار. في كل الأحوال، يمكن للتعاونيات الزراعية أن تلعب دورًا محوريًا في نشر المعلومات لدى المزارعين ومساعدتهم على استحداث أساليب الزراعة وغير ذلك من المهام التي تعتمد على رفع كفاءة العاملين بهذه الجمعيات التعاونية واختيار الكوادر المناسبة للعمل بها، أو أن يكون أعضاء هذه الجمعيات مختارين عن طريق الانتخاب المباشر من الفلاحين المشاركين في الزمام الزراعي التي تديره الجمعية. هذا ما يخص الزراعة وإنتاجية الأرض. أما من الناحية العمرانية، فتوازيًا مع ما يتبع حاليًا من تجريم البناء على الأرض الزراعية، لا بد من توفر الدراسات الاجتماعية الدقيقة لحالة الريف المصري، والعمل على توفير السكن الملائم للأجيال الجديدة والحالية في ظل عدم توفر الظهير المناسب للامتدادات العمرانية بقرى مصر، وإعادة تفعيل أهداف سياسات إنشاء المدن والمجتمعات العمرانية الجديدة، وإعادة التوازن بين إنتاجية الوحدات السكنية الاقتصادية والمتوسطة وفوق المتوسطة والفاخرة.
صدرت قوانين الإصلاح الزراعي دون تخطيط مستقبلي يحمي حقوق الأجيال القادمة ويحقق الاستدامة. المشكلة لم تكن في قوانين الإصلاح الزراعي، بل في عدم وجود آلية صحيحة لتحقيق أهداف العدالة الاجتماعية، واستعجال المكتسبات للوصول السريع لإرضاء الحالة الثورية في الشارع المصري. دفع ثمن ذلك مدننًا وريفنا على حد سواء.