تاريخ أزمات الإسكان في مصر

يعتبر القرن العشرين هو البداية الفعلية لظهور أزمة المناطق العشوائية تدريجيا، ففي بداية القرن لم تكن مصر تعاني بشدة من وجود فجوة حقيقية في قطاع الإسكان، كما عانت في نهاية القرن، فكان هناك نوعا من الاتزان بين عملية العرض والطلب في سوق الإسكان المصري، كما لم تكن ظهرت بعد حركة التصنيع الكبرى التي ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين، ولم تكن الحالة الاقتصادية للشعب المصري في هذا التوقيت مزدهرة بالحجم التي تسعى معه الرغبة في تملك العقارات أو الانتقال من مكان إلى اخر سعيا للتحضر كما حدث في أوقات لاحقة، ناهيك عن الحالة الاجتماعية التي كانت متقاربة في معظمها في بدايات القرن العشرين.

اندلعت الحرب العالمية الثانية عام 1939، وكانت لها آثارا بالغة على معظم القطاعات التي تمس حياة سكان العالم آنذاك، بالتالي لم يكن قطاع الإسكان وقطاع البناء والتشييد في مأمن ومنأى عن هذه التغيرات، فمع اندلاع الحرب توقفت حركة البناء والتشييد في معظم البلدان، وكان ذلك نتيجة لعدم توفر مواد البناء مثل حديد التسليح والأسمنت، وقد انعكس ذلك على مصر آنذاك مما جعل الحكومة المصرية تفرض حالة الطوارئ وتصدر قرارا عسكريا بتجميد القيمة الايجارية للعقارات المؤجرة، وكذلك امتداد العلاقة الايجارية وعدم أحقية المالك في استرداد منشأته بعد نهاية عقد الايجار، بالتالي ظهرت بداية الأزمة على ملاك الوحدات السكنية، وتمثلت في عاملين، الأول أن القيمة الايجارية أصبحت ثابتة ولن تزيد وفقا للمتغيرات الاقتصادية مهما بلغت، والعامل الثاني تمثل في عدم انتفاع المالك بوحدته في غرض آخر عير الذي هي عليه آنذاك، استمرت هذه السياسات مفعلة حتي نهاية النصف الأول من القرن العشرين، مما أدي الى تراجع في رغبة الملاك والمستثمرين في إقامة وحدات سكنية جديدة.

“من اللواء أركان الحرب محمد نجيب القائد العام للقوات المسلحة إلى الشعب المصري. اجتازت مصر فترة عصيبة في تاريخها الأخير من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم، وقد كان لكل هذه العوامل تأثير كبير على الجيش وتسبب المرتشون والمغرضون في هزيمتنا في حرب فلسطين، وأما فترة ما بعد هذه الحرب فقد تضافرت فيها عوامل الفساد وتآمر الخونة على الجيش وتولى أمرهم إما جاهل أو خائن أو فاسد حتى تصبح مصر بلا جيش يحميها. وعلى ذلك فقد قمنا بتطهير أنفسنا وتولى أمرنا في داخل الجيش رجال نثق في قدرتهم وفي خلقهم وفي وطنيتهم ولا بد أن مصر كلها ستتلقى هذا الخبر بالابتهاج والترحيب، أما من رأينا اعتقالهم من رجال الجيش السابقين فهؤلاء لن ينالهم ضرر وسيطلق سراحهم في الوقت المناسب. وإني أؤكد للشعب المصري أن الجيش اليوم كله أصبح يعمل لصالح الوطن في ظل الدستور مجرداً من أية غاية وأنتهز هذه الفرصة فأطلب من الشعب ألا يسمح لأحد من الخونة بأن يلجأ لأعمال التخريب أو العنف لأن هذا ليس في صالح مصر وأن أي عمل من هذا القبيل سيقابل بشدة لم يسبق لها مثيل وسيلقى فاعله جزاء الخائن في الحال. وسيقوم الجيش بواجبه هذا متعاوناً مع البوليس، وإني أطمئن إخواننا الأجانب على مصالحهم وأرواحهم وأموالهم ويعتبر الجيش نفسه مسئولا عنهم والله ولي التوفيق.”

كانت هذه الكلمات هي بيان حركة يوليو عام 1952، فور تحرك الجيش بقيادة الضباط الأحرار لإسقاط الحكم الملكي وإعلان تحول مصر الى الحكم الجمهوري، ٍهذه الحركة التي تعتبر من أبرز الحركات في تاريخ مصر والتي كان لها أثرا كبيرا في شكل وطبيعة العمران المصري حتى اليوم، فقد اتخذت الحكومة المصرية في الخمسينيات والستينيات العديد من القرارات التي هدفت الى كسب التأييد الشعبي للتجربة الاشتراكية، وكان من أهم هذه القرارات مجموعة القوانين والتشريعات المتعاقبة التي قضت بخفض القيمة الايجارية للمنشآت العقارية المؤجرة.

أدت قوانين تخفيض الإيجارات الى التراجع في رغبة المستثمرين العقاريين وإحجامهم عن بناء عقارات جديدة، حتى أن فترة الستينيات شهدت تحايلا على القوانين الخاصة بالإيجارات، وذلك عن طريق كتابة قيمة غير حقيقية ومبالغ فيها عن قيمة العقار الاصلية، ولهذا كان لابد للدولة آنذاك أن تعلم أ هناك قصورا ما في سياستها العامة وجب إصلاحه، لكن سياسة خفض القيمة الايجارية وتجميدها ظلت آخذة في الاتساع.

اذن بدأت سياسات خفض القيمة الايجارية للعقارات في النصف الأول من القرن العشرين، بينما توسعت هذه السياسات في النصف الثاني من القرن ذاته، سار هذا جنبا الى جنب مع سياسة تأميم الشركات، والتي كانت سمة هامة من سمات الحكم الاشتراكي، وكانت لشركات المقاولات نصيبا كبيرا من هذا التأميم، في الوقت نفسه الذي كان يتم الدفع بشركات القطاع العام للسيطرة على قطاع البناء والتشييد وإنتاج الوحدات السكنية، الا أن هذه الدفعة كانت مفاجأة ولم يكن القطاع العام مستعدا لذلك، الأمر الذي ظهر في عجز شركات القطاع العام عن إتمام الوحدات السكنية المطلوب منهم تنفيذها، ذلك الأمر جعل الدولة تتراجع في سياسة الاحجام المفروضة على شركات القطاع الخاص وسمحت لهم بزيادة رأس المال في مشاريع الإسكان.

شهدت ستينيات القرن العشرين تطورا كبيرا في حجم الأعمال الصناعية، والتي كانت ترجمة لأهداف السياسات العامة للدولة وقتها، وكان من المخطط إقامة عدد من المصانع الجديدة وفقا لخطة الدولة في عدد من المحافظات، بهدف الانتشار وخلخلة التمركز السكاني، لكن أحداثا سياسية كانت ظهرت في الخمسينيات تمثلت في اضراب عمال بمحافظة الغربية وخروج بعض المظاهرات المطالبة بعودة الجيش لثكناته وتسليم الحكم للمدنيين، سرعان ما تم القضاء على هذه المظاهرات والتصدي لها، لكن هذه الأحداث ظلت مصاحبة لتفكير صناع القرار حتي الستينيات، الأمر الذي جعل الدولة تتراجع عن خطة انتشار وتوطين المصانع في المحافظات، وتم توطينها في المدن الكبيرة والقريبة من إقليم القاهرة الكبرى، لسهولة السيطرة الأمنية على أي من الأحداث المشابهة.

أدي تمركز المصانع في المدن الكبرى إلى تزايد تيارات الهجرة الداخلية في الستينيات، في الوقت نفسه الذي تراجع فيه دور النشاط الزراعي وتراجع العائد الاقتصادي الناتج من الأرض الزراعية، فاتجه العديد من المزارعين وجهة الأنشطة الصناعية، الوقت نفسه الذي بدأت فيه الدولة انشاء السد العالي، الذي جذب عدد كبير من العمالة ومواد البناء، الامر الذي انعكس علي قطاع الإسكان بالسلب وأدي الى التراجع في حجم الوحدات السكنية المنتجة، وفي ظل هذا التراجع في معدل انشاء الوحدات السكنية، لم تكن الدولة قادرة على استيعاب تيارات الهجرة المتدفقة من القري إلى المدن الكبرى، في الوقت نفسه كانت انتهت الدولة من تطبيق قوانين الإصلاح الزراعي، ومع القصور التشريعي الذ صاحب هذه القوانين وتمثل في عدم وجود القوانين التي تحافظ على الأرض وتمنع تغيير استعمالها، فكان البناء العشوائي على الأراضي الزراعية خارج التقسيمات الرسمية في هذا الوقت أمر يسيرا. بذلك شهد النصف الثاني من القرن العشرين خلق مناطق عشوائية جديدة خارج رقابة الدولة، أضف لهذه الأسباب السابقة أسبابا خارجة عن الإرادة، فقد شهدت مصر في النصف الثاني من القرن العشرين العدوان الثلاثي، الذي تسبب في تخريب عمران مدن القناة وتهجير سكانها، الذين اتجهوا الى المدن الكبرى في القاهرة والدلتا، وسكن العديد منهم المدارس ولأحواش المقابر والمساجد.

انتهت التجربة الاشتراكية بوفاة جمال عبدالناصر، لتبدأ حقبة جديدة في حكم مصر وتتغير معها السياسات العامة للدولة الى النقيض في سبعينيات القرن الماضي، لتبدأ سياسة الانفتاح والتي صاحبتها تغييرات كبيرة في التشريعات التي عارضت تماما التشريعات في الحقبة السابقة، مما أدي إلى خلخلة كبيرة في النظام التشريعي خاصة التشريعات العمرانية، حيث فتحت الحكومة في السبعينيات الباب لعودة القطاع الخاص وسيطرته على الاقتصاد والقطاعات الاستثمارية، خاصة في قطاع البناء والتشييد، صاحب هذا تراجع تدريجي في دور شركات القطاع العام، الذي كان مسئولا عن انشاء الوحدات السكنية الشعبية في الستينيات، وهو نمط الإسكان الذي يمس القطاع الأكبر من المواطنين ، لكن اتجهت الدولة في هذا الوقت الى الاهتمام الأكبر بالإسكان المتوسط وفوق المتوسط.

شهدت مصر في السبعينيات فتح الباب فتح الباب لحركة الهجرة الخارجية المؤقتة للدول النفطية، ونتيجة لتحويلات المصريين العاملين بالخارج شهدت مصر تزايد في حركة انشاء الأبراج السكنية داخل المدن، وازدادت معها حركة الهجرة الداخلية من المزارعين غير القادرين على الهجرة الخارجية، والفارين من الأعمال الزراعية، وفي ظل تراجع دور القطاع العام في انشاء مساكن شعبية، كان مؤشر المناطق العشوائية والسكن غير الرسمي في ارتفاع مستمر. شهد الاقتصاد المصري في السبعينيات حركة تضخم كبيرة، ارتفع معها أسعار السلع الاستهلاكية، وكذلك امتد هذا الارتفاع ليصل الى أسعار مواد البناء، وكذلك ارتفاعات مبالغ فيها في أسعار المتر المربع للأراضي المعدة للبناء، دافعة محدودي الدخل إلى الذهاب للسكن في المناطق غير الرسمية، اتجهت السياسة العامة للدولة في السبعينيات للخروج من وادي النيل إلى الصحراء، عن طريق إقامة مجتمعات عمرانية جديدة عرفت باسم المدن الجديدة، في الوقت نفسه استمرت أعمال التنمية متركزة داخل المدن الكبرى خاصة إقليم القاهرة، فلم يكن من دافع حقيقي أو محفز لجذب السكان إلى المناطق الجديدة.

انتهت فترة حكم السادات وبدأ عصر مبارك الذي لم يضف جديدا ولم يخالف سياسات سالفه في الحكم، بل توسع في تطبيق سياسات الانفتاح وبرامج الإصلاح الاقتصادي، وقد شهدت مصر في عصر مبارك توسعا كبير وازدياد في حجم المناطق العشوائية، نتيجة استخدام النظام الحاكم لهذه المناطق في الأغراض السياسية، فكانت الانتخابات البرلمانية موسما للتعديات والزحف العمراني الأراضي الزراعية، في ظل وعود مرشحو الحزب الحاكم بتقنين أوضاع هذه المناطق حال فوزهم في الانتخابات، وكانت من العوامل المهمة لوجود هذه المناطق هو استفادة النظام الحاكم من حالات الفقر والحالات الاجتماعية لهذه المجتمعات، واستخدام الخارجين عن القانون منهم كبلطجية وأنصار أمام اللجان الانتخابية للبطش بالمعارضين.

اذن كانت المناطق العشوائية نتاج أفكار حكام عمل كل منهم لما يخدم أهدافه وأفكاره وإطالة فترة بقائه في الحكم، فنتج عن هذا النسيج العمران المشوه، الذي عانت وما زالت تعاني منه مصر.